الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد ***
{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آَمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ (35) رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (36) رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (37) رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ (38)} قلت: قال هنا: {اجعل هذا البلد} بالتعريف، وقال في سورة البقرة {بَلَداً} [البقرة: 126] بالتنكير، قال البيضاوي: الفرق بينهما أن المسؤول في الأول أي: في التعريف إزالة الخوف وتصييره أمناً، وفي الثانية جعله من البلاد الآمنة. ه. وفرَّق السهيلي: بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان بمكة حين نزول آية إبراهيم، لأنها مكية؛ فلذلك قال فيه: «البلد»؛ بلام التعريف التي للحضور، بخلاف آية البقرة، فإنما هي مدينة، ولم تكن مكة حاضرة حين نزولها، فلم يُعرفها بلا تعريف الحضور. ه. قال ابن جزي: وفيه نظر؛ لأن ذلك كان حكاية عن إبراهيم عليه السلام، ولا فرق بين كونه بالمدينة أو بمكة. ه. قلت: لا نظر فيه؛ لأن الحق تعالى لم يحك لنا قصص الأنبياء بألفاظهم، وإنما ترجم عنها بلسان عربي، فينزل على رعاية مقتضى الحال. ولذلك اختلفت الألفاظ في قصص الأنبياء، لأن كل قصة تنزل على ما يقتضيه المقام والحال، من تعريف وتنكير، واختصار وإطناب. وقد ذكر أبو السعود في سورة الأعراف ما يؤيد هذا، فانظره. والله تعالى أعلم. يقول الحق جل جلاله: {و} اذكر {إذْ قال إبراهيم ربِّ اجعل هذا البلد} يعني: مكة، {آمناً} لمن فيها من أغدرة الناس عليها، أو من الخسف والعذاب، أو من الطاعون والوباء، {واجنُبني} أي: امنعني واعصمني، {وبَنيَّ} من بعدي، من {أن نعبد الأصنامَ} أي: اجعلنا منهم من جانب بعيد. قال البيضاوي: وفيه دليل على أن العصمة للأنبياء بتوفيق الله وحفظه إياهم، وهو بظاهره لا يتناول أحفاده وجميع ذريته، وغم ابن عيينة أن أولاد إسماعيل لم يعبدوا الصنم، محتجاً به، وإنما كانت لهم حجارة يدورون بها، وسمونها الدوار، ويقولون: البيت حجر، وحيثما نصبت حجراً فهو بمنزلته. ه. قال ابن جزي: و{بَنِيَّ} يعني: من صُلبه، وفيهم أجيبت دعوته، وأما أعقاب بنيه فعبدوا الأصنام. ه. وقد قال في الإحياء: عنى إبراهيمُ عليه السلام بالأصنام، الذهب والفضة، بمعنى: حبهما والأغترار بهما، والركون إليهما. قال عليه الصلاة والسلام: «تَعِسَ عبدُ الدِّينَارِ والدِّرْهَم...» الحديث؛ لأن رتبة النبوة أجل من أن يُخْشى عليها أن تعتقد الألوهية في شيء من الحجارة. ه. قلت: الظاهر أن يبقى اللفظ على ظاهره، في حقه وفي حق بنيه. أما في حقه فلسعة علمه وعدم وقوفه مع ظاهر الوعد، كما هو شأن الأكابر، لا يزول اضطرارهم، ولا يكون مع غير الله قرارهم، وهذا كقوله: {وَلاَ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَن يَشَآءَ رَبِّي شَيْئاً} [الأنعام: 80]. وتقدم هذا المعنى مراراً. وأما في حق بنيه فإنما قصد العموم في نسله لكن لم يجب إلا فيما كان صلبه؛ فإن دعاء الأنبياء عليهم السلام لا يجب أن يكون كله مجاباً، فقد يُجابون في أشياء، ويُمنعون من أشياء. وقد سأل نبينا صلى الله عليه وسلم لأمته أشياء، فأجيب في البعض، ومُنع البعض، كما في الحديث. ثم قال إبراهيم عليه السلام: {ربِّ إنهن أضللن كثيراً من الناس} أي: إن الأصنام أتلفت كثيراً من الخلق عن طريق الحق، فلذلك سألتُ منك العصمة، واستعذتُ بك من إضلالهن، وإسناد الإضلال إليهن باعتبار السببية، كقوله {وَغَرَّتْهُمُ الحياة الدنيا} [الأنعام: 70]. {فمن تبعني} على ديني {فإنه مني}؛ لا ينفك عني في أمر الدين، {ومن عصاني فإنك غفور رحيم}، تقدر أن تغفر له ابتداء، أو بعد التوفيق للتوبة. وفيه دليل على أن كل ذنب فللَّه أن يغفره، حتى الشرك، إلا أن الوعيد فرَّق بينه وبين غيره، قاله البيضاوي. قال ابن جزي: {ومن عصاني}؛ يريد: بغير الكفر، أو عصاه بالكفر ثم تاب منه، فهو الذي يصح أن يدعى له بالمغفرة، ولكنه ذكر اللفظ بالعموم؛ لما كان فيه عليه السلام من التخلْق بالرحمة للخلق، وحسن الخُلق. ه. {ربنا إني أسكنت من ذريتي} أي: بعض ذريتي، وهو: إسماعيل عليه السلام، أو: أسكنت ذرية من ذريتي، وهو إسماعيل ومن وُلِد منه؛ فإن إسكانه متضمن لإسكانهم، {بوادٍ غير ذي زرع} يعني: وادي مكة، لأنها حجرية لا تنبت، والوادي: ما بين الجبلين، وإن لم يكن فيه ماء. ولم يقل: ولا ماء، ولعله علم بوحي أنه سيكون فيه الماء، {عن بيتك المحرَّم} الذي حَرَّمه على الجبابرة من التعرض له والتهاون به، أو: لم يزل محترماً تهابُه الجبابرة، أو مُنع منه الطوفان، فلم يستأصله ويمح أثره. وهذا الدعاء وقع منه أول ما قدم، ولم يكن موجوداً، فلعله قال ذلك باعتبار ما كان، أي: عند أثر بيتك المحرم، أو باعتبار ما يؤول إليه من بنائه وعمارته واحترامه. وقصةُ إنزاله ولده بمكة: أن هاجر كانت مملوكة لسارة، وهبها لها جبارٌ من الجبابرة؛ وذلك أن إبراهيم عليه السلام دخل مدينة، وكان فيها جبار يغصب النساء الجميلات، فأخذها، وأدخلها بيتاً، فلما دخل عليها دعت عليه، فسقط، ثم قالت: يا رب إن مات قتلوني فيه، فقام، فلما دنا منها، دعت عليه، فسقط، فقال في الثالثة: ما هذه إلا شيطانة، أخرجوها عني، وأعطوها هاجر، فعصمها الله منه، وأخدمها هاجر، ثم وهبتها لإبراهيم، فوطئها فحملت بإسماعيل، فلما ولدته غارت منها فتعب إبراهيم معها، ثم ناشدته، سارةُ أن يخرجها من عندها، فركب البراق، وخرج بها تحمل ولدها حتى أنزلها مكة، تحت دوحة، قريباً من موضع زمزم، فلما ولي تبعته، وهي تقول: لِمنْ تتركنا في هذه البلاد، وليس بها أنيس؟ ثم قالت: «أألله أمرك بهذا؟ قال: نعم، قالت: إذاً لا يُضيعنا. فرجعت تأكل من مِزود، تم تركها لها، وتشرب من قربة ماء، فما فرغ الماء نشف اللبن، وجعل الولدُ يتخبط من العطش، فجعلت تطوف من الصفا، وكان جبلاً صغيراً قريباً منها، وتذهب إلى المروة، وتسعى بينهما، لعلها ترى أحداً، فلما بلغت سبعة أطواف وسمعت صوتاً في الهواء، فقالت: أغِثْ إن كان معك غياث، فتبدَّى جبريلُ بين يديها حتى وصل إلى موضع زمزم، فهمز بعقبه ففار الماء. فلما رأته دهشت، وخافت عليه يذهب؛ فجعلت تحوطه، وتقول: زم زم، فانحصر الماء. قال صلى الله عليه وسلم: «يَرْحمُ اللهُ أُمَّ إسمَاعِيل، لَوْ تَركَتْهُ، كَانَ عَيْناً مَعِيناً» فشربت، ودرَّ لبنُها. ثم إن جرهم رأوا طيوراً تحوم، فقالوا: لا طيور إلا على الماء. فقصدوا الموضع، فوجدوها مع ابنها، وعندها عين، فقالوا لها: أتشركيننا في مائك، ونشركك في ألباننا؟ ففعلت. وفي حديث البخاري: «قالوا لها: أتحبين أن نسكن معك؟ قالت: نعم، ولكن لا حق لكم في الماء» فرحلوا إليها، وسكنوا معها، ثم زوجوا ولدها منهم. وحديث إتيان إبراهيم يتعاهد ابنه، وبنائهما الكعبة، مذكور في البخاري والسَّيَر. ثم قال: {ربنا ليُقيموا الصلاة} أي: ما أسكنتهم بهذا الوادي البلقع من كل مرتفق ومرتزق، إلا لإقامة الصلاة عند بيتك المحرم. وتكرير النداء وتوسيطه، للإشعار بأنها المقصود بالذات من إسكانهم ثَمَّةَ. والمقصود من الدعاء: توفيقهم لها، وقيل: اللام للأمر، وكأنه طلب منهم الإقامة، وسأل من الله أن يوفقهم لها. {فاجعل أفئدة من الناس} أي: اجعل أفئدة من بعض الناس، {تهوي إليهم} أي: تسرع إليهم شوقاً ومحبة، و«من»: للتبعيض، ولذلك قيل: لو قال: أفئدة الناس لازدحمت عليه فارس والروم، ولحجت اليهودُ والنصارى. وقيل: للبيان، أي: أفئدة ناسٍ. {وارزقهم من الثمرات} مع كونهم بوادٍ لا نبات فيه، {لعلهم يشكرون} تلك النعمة، فأجاب دعوته، فجعله حرماً آمناً تُجبى إليه ثمرات كل شيء، حتى أنه يوجد فيه الفواكه الربيعية والصيفية والخريفية، في يوم واحد. {ربنا إنك تعلم ما نُخفي وما نُعلن} أي: تعلم سرنا، كما تعلم علانيتنا. والمعنى: إنك أعلم بأحوالنا ومصالحنا، وأرحم منا بأنفسنا، فلا حاجة لنا إلى الطلب، لكننا ندعوط إظهاراً لعبوديتك، وافتقاراً إلى رحمتك، واستجلاباً لنيل ما عندك. قاله البيضاوي: أي: فيكون مناسباً لحاله في قوله: «علمه بحالي يُغني عن سؤالي». وقيل: ما نُخفي من وَجْدِ الفرقة، وما نعلن من التضرع إليك والتوكل عليه. وتكرير النداء؛ للمبالغة في التضرع واللجوء إلى الله تعالى. {وما يخفى على الله من شيء في الأرض ولا في السماء}؛ لأن علمه أحاط بكل معلوم. «من»: للاستغراق. الإشارة: ينبغي للعبد أن يكون إبراهيمياً، فيدعو بهذا الدعاء على طريق الإشارة، فيقول: رب اجعل هذا القلب آمناً من الخواطر والوساوس، واجنبني وبَنِيَّ، أي: بَعِّدْنِي ومن تعلق بي، أن نعبد الأصنام، التي هي الدنانير والدراهم، وكل ما يُعشق من دون الله، {رب إنهن أضللن كثيراً من الناس} فتلفوا في حبها والحرص عليها، فلا فكرة لهم إلا فيهما، ولا شغل لهم إلا جمعهما، فمن تبعني في الزهد فيهما، والغنى بك عنهما، فإنه مني، ومن عصاني، واشتغل بمحبتهما وجمعهما، {فإنك غفور رحيم}. وقوله: {ربنا إني أسكنت من ذريتي بوادٍ غير ذي زرع} فيه: تعليم اليقين لمن طلب تربية اليقين. قال الورتجبي: فيه إشارة إلى تربية أهله بحقائق التوكل والرضا والتسليم، ونِعْم التربية ذلك فأعلمنا بسنته القائمة الحنيفية السمحة السهلة، الخليلية الحبيبية، الأحمدية المصطفوية صلوات الله عليهما أن العارف الصادق ينبغي له ألا يكون معوله على الأملاك والأسباب في حياته وبعد وفاته لتربية عياله، فإنه تعالى حسبه، وزاد في تربيتهم بأن يؤدبِّهم بإقامة الصلاة إظهاراً للعبودية، وإخلاصاً في المعرفة، وطلباً للمشاهدة، ومناجاة في القربة بقوله: {ربنا ليقيموا الصلاة} الخ. وقال القشيري: أخبر عن صدق توكله وتفويضه، أي: أسكنت قوماً من ذريتي بوادٍ غير ذي زرع، عند بيتك المحرّم. وإنما رد الرِّفق لهم في الجِوارِ فقال: {عند بيتك المحرم}، ثم قال: {ليقيموا الصلاة}. أي: أسكنتُهم لإقامة حقَّكَ، لا لِطَلَبِ حظوظهم. ويقال: اكتفى بأن يكونوا في ظلال عنايته، عن أن يكونوا في ظلال نعيمهم، ثم قال: قوله: {بوادٍ غير ذي زرع} أي: أسكنتُهم هذا الوادي، ولا متعلق من الأغيار لقلوبهم، ولا متناول لأفكارهم وأسرارهم، فهم مطروحون ببابِكَ مُقيمون بحضرتك، جار فيهم حُكمك، إن رَاعَيتَهُم كَفَيْتَهم، وكانوا أعَزَّ خلقِ اللهِ، وإن أقصيتهم وأوبقتهم كانوا أضعف وأذلَّ خَلْقِكَ. ه. وقوله تعالى: {فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم}: قال القشيري: ليشتغلوا بعبادتك، فأفُرد قوماً يقومون لهم بكفايتهم، وارزقهم من الثمرات، فإنَّ من قام بحقِّ الله قام الله بحقِّه. فاستجاب الله دعاءَه فيهم، فصارت القلوبُ من أهل كل بَر وبحرٍ كالمجبولة على محبة ذلك البيت، ومحبة أولئك المصلين من سُكانه. وقال الورتجبي: سأل أن يجعلهم مرادي جلاله وجماله، ويجعلهم آية الصادقين والعاشقين، بقوله: {فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم}، تميل بوصف الإرادة والمحبة لك، والاقتداء بهم في إقامة سُنتك، وألبسهم لباس أنوارك، وألق في قلوب خلقك محبتهم بمحبتك. ه. ومعنى قوله: مرادي جلاله وجماله: أي: مظهراً لجلاله وجماله، يعشقهم البَرُّ والفاجر، والكامل والناقص، فقد ظهر فيهم الجلال والجمال. والله تعالى أعلم.
{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ (39) رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ (40) رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ (41)} قلت: (لسميعُ الدعاء): من إضافة أمثلة المبالغة إلى مفعوله، أي: لسميع دعاء من دعاءه. و(من ذريتي): عطف على مفعول «اجعل»، أي: اجعلني وبعض ذريتي مقيمين للصلاة. يقول الحق جل جلاله: حاكياً عن خليله عليه السلام: {الحمدُ لله الذي وهبَ لي على الكِبَر} أي: مع كبر سني عن الولد، {إسماعيل وإسحاق}، رُوي أنه وُلد له إسماعيل لتسع وتسعين سنة، وإسحاق لمائة وثنتي عشرة سنة، وقيل: غير ذلك. وإنما ذكر كبر سنه؛ ليكون أعظم في إظهار النعمة، وإظهاراً لما فيه من الآية، ولذلك قال: {إنَّ ربي لسميعُ الدعاء} أي: يجيب من دعاه، من قولك: سمع الملك كلامي، إذا اعتنى به. وفيه إشعارٌ بأنه تقدم بأنه تقدم منه سؤال الولد، فسمع منه، وأجابه حين وقع اليأس منه، ليكون من أجلِّ النعم وأجلاها. ثم طلب الاستقامة له ولولده بقوله: {ربِّ اجعلني مقيم الصلاة} أي: مُتقناً لها، مواظباً عليها، {ومن ذريتي} فاجعل من يُقيمها. والتبعيض؛ لعلمه بالوحي أنَّ مِنْ ولده من لا يقيمها، أو باستقرار عادته في الأمم الماضية أن منهم من يكون كفاراً. {ربنا وتقبل دعاء} أي: استجب، أو تقبل عبادتي. {ربنا اغفر لي ولوالدي}، وكان هذا الدعاء قبل النهي، أو قبل تحقق موتهما على الكفر، أو يريد آدم وحواء. {وللمؤمنين يوم يقول الحسابُ} أي: يثبت ويتحقق وجوده، مستعار من القيام على الرِّجل، كقولهم: قامت الحرب على ساق. أو يقوم إليه أهله، فحذف المضاف، أي: يقوم أهل الحساب إليه، وأسند إليه قيامهم؛ مجازاً. الإشارة: إتيان النسل البشري، أو الروحاني، من أجلِّ النعم وأكملها على العبد، وفي الحديث: «إذَا مَاتَ العَبْدُ انْقََطََعَ عَمَلُه إِلاَّ مَن ثَلاثٍَ، صدقةٍ جَاريةٍ، أو عَلْم بَثَه في صُدُور الرِّجالِ، أو وَلدٍ صالح يدعُو له بَعدَ مَوتهِ» والولد الروحاني أتم، لتحقق استقامته في الغالب. وطلب ذلك محمود كما فعل الخليل وزكريا، وغيرهما، وقد مدح الله مَنْ فعل ذلك بقوله: {والذين يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ} [الفرقان: 74]. وقرة عين في الذرية: أن يكونوا على الاستقامة في الدين، وسلوك منهاج الصالحين. وكل ما أتوا به من الطاعة والإحسان فللوالدين حظ ونصيب من ذلك، ولا فرق بين الولد الروحاني والبشري، وفي ذلك يقول الشاعر: والمَرْءُ في ميزانه أَتْبَاعُهُ *** فاقْدِرْ إذنْ قَدْرَ النبيّ مُحَمَّدِ والله تعالى أعلم.
{وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ (42) مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ (43) وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ (44) وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ (45)} قلت: (يوم يأتيهم): مفعول ثانٍ لأَنذِر، ولا يصح أن يكون ظرفاً. و(نُجبْ دعوتك)؛ جواب الأمر. يقول الحق جل جلاله: {ولا تحسبنَّ} أيها السامع، أن {اللَّهَ غافلاً عما يعملُ الظالمون}، أو أيها الرسول، بمعنى: دُمْ على ما أنت عليه من أن الله مطلع على أفعالهم، لا تخفى عليه خافية، غير غافل عنهم. وهو وعيد بأنه معاقبهم على قليله وكثيره لا محالة. وقيل: إنه تسلية للمظلوم؛ وتهديد للظالم؛ فالحق تعالى يمهل ولا يهمل. {إنما يؤخرهم}، أي: يؤخر عذابهم {ليوم تشخص فيه الأبصارُ}، أي: تحد فيه النظر، من غير أن تطرف؛ من هول ما ترى. {مُهطعين}: مسرعين إلى الداعي؛ مذلة واستكانة، كإسراع الأسير والخائف ونحوه، أو مقبلين بأبصارهم، لا يطرفون؛ هيبة وخوفاً، {مُقنعي رؤوسهم} رافعيها إلى السماء كرفع الإبل رأسها عند رعيها أعالي الشجر. وذلك من شدة الهول، أو من أجل الغل الذي في عنقه، كقوله {إِنَّا جَعَلْنَا في أَعْناقِهِمْ أَغْلاَلاً فَهِىَ إِلَى الأذقان فَهُم مُّقْمَحُونَ} [يس: 8]. وقال الحسن في هذه الآية: وجوه الناس يوم القيامة إلى السماء لا ينظر أحد إلى أحد. ه. {لا يرتدُّ إليهم طرفهم}، بل تقف أعينهم شاخصة لا تطرف، أو: لا يرجع إليهم نظرهم فينظروا إلى أنفسهم، {وأفئدتهم هواء}: خلاء، محترقة، فارغة من الفهم، لا تعي شيئاً؛ لفرط الحيرة والدهشة. ومنه يُقال للأحمق وللجبان: قلبه هواء، أي: لا رأي فيه ولا قوة. وقيل: خالية من الخير، خاوية من الحق. {وأنذر الناس} يا محمد، أي: خوفهم هذا اليوم، وهو: {يوم يأتيهم العذابُ}، يعني يوم القيامة، أو يوم الموت؛ فإنه أول مطلع عذابهم، {فيقول الذين ظلموا} بالشرك والتكذيب: {ربنا أخِّرنا إلى أجل قريب} أي: أخِّر العذاب عنا، وردنا إلى الدنيا، وأمهلنا إلى أجل قريب، {نُجب دعوتك} حينئذٍ {ونتبع الرسلَ} ونظيره: {لولا أخرتني إلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصالحين} [المنافقون: 10]. قال تعالى لهم: {أو لم تكونوا أقسمتم من قبلُ} أنكم باقون في الدنيا، {ما لكم من زوال} عنها بالموت ولا بغيره، ولعلهم أقسموا بطراً وغروراً. أو دل عليه حالهم؛ حيث بنوا مشيداً، وأمَّلوا بعيداً. أو أقسموا أنهم لا يُنقلون إلى دار أخرى، وأنهم إذا ماتوا لا يُزالون عن تلك الحالة، ولا ينقلون إلى دار الجزاء، كقوله: {وَأَقْسَمُواْ بالله جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لاَ يَبْعَثُ الله مَن يَمُوتُ} [النحل: 38]. {وسكنتمُ في مساكن الذين ظلموا أنفسَهم} بالكفر والمعاصي، من الأمم السالفة كعاد وثمود، {وقد تبيّنَ لكم كيف فعلنا بهم} بما تُشاهدون من آثارهم الدارسة، وديارهم الخربة، وما تواتر عندكم من أخبارهم، {و} قد {ضربنا لكم الأمثالَ} من أحوالهم، أي: بيَّنا لكم أنكم مثلهم في الكفر واستحقاق العذاب، أو بيَّنا لكم صفات ما فعلوا، وما فُعل بهم، التي هي في الغرابة كالأمثال المضروبة. الإشارة: كما أمهل، سبحانه الظالمين إلى دار الشدائد والأهوال، أمهل عباده الصالحين إلى دار الكرامة والنوال؛ لأن هذه الدار لا تسع ما أراد أن يعطيهم من الخيرات؛ لأنها ضيقة الزمان والمكان، فقد أجلَّ مقدارهم أن يجازيهم في دار لا بقاء لها، وتلك الدار باقية لا نفاذ لها، ففيها يتمحض الجمال والجلال. فبقدر ما ينزل على أهل الجلال من الأهوال ينزل على أهل الجمال من الكرامة والنوال. وتأمل ما تمناه أهل الجلال حين نزلت بهم الأهوال من قولهم: {ربنا أخرنا إلى اجل قريب نُجب دعوتك ونتبع الرسل}، ثم بادر إلى إجابة الداعي، واتباع الرسول الهادي، في كل ما جاء به من الأوامر والنواهي، واعتبر بمساكن الذين ظلموا أنفسهم، كيف فعل بهم الزمان؟ وكيف غرتهم الأماني وخدعهم الشيطان، حتى أسكنهم دار الذل والهوان؟ فشد يدك على الطاعة والإحسان والشكر لله على الهداية لنعمة الإسلام، والإيمان، وعلق قلبك بمقام الإحسان؛ فإن الله يرزق العبد على قدر نيته، وبالله التوفيق.
{وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ (46) فَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (47) يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (48) وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ (49) سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ (50) لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (51) هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (52)} قلت: (وإن كان مكرُهم)؛ «إن» نافية، واللام للجحود، ومن قرأ «لّتزول»؛ بفتح اللام، فإن مخففة، واللام فارقة؛ و(يوم تُبدل): بدل من (يوم يأتيهم)، أو ظرف للانتقام، أو مقدر باذكر، أو (بمخلف وعده). ولا يجوز ان ينتصب بمخلف؛ لأن ما قبل «إن» لا يعمل فيما بعدها. و(السماوات): عطف على (الأرض)، أي: وتبدل السماوات. يقول الحق جل جلاله: {وقد مكروا} بك يا محمد {مكرَهُم} الكلي، واستفرغوا جهدهم في إبطال الحق وتقرير الباطل، {وعند الله مكرُهُم} اي: مكتوب عنده فعلهم، فيجازيهم عليه. أو عند الله ما يمكرهم به جزاء لمكرهم، وإبطالاً له، {وإن كان مكرُهُم} في العظم والشدة، {لِتزولَ منه الجبال} الثوابت لو زالت؛ تقديراً، أو ما كان مكرهم لِتزولَ منه الجبال، أي: الشرائع والنبوات الثابتة كالجبال الواسي. والمعنى على هذا تحقير مكرهم؛ لأنه لا تزول منه تلك الجبال الثابتة الراسخة، أو: وإن مكرهم لَتزولُ منه الجبال من شدته، ولكن الله عصم ووقى. وقيل: الآية متصلة بما قبلها، أي وسكنتم في مساكن الذين ظلموا أنفسهم، ومكروا مكرهم في إبطال الحق. {فلا تحسبن اللهَ مخلفَ وعدِهِ رسلَه}، يعني: وعد النصر على الأعداء، وقدَّم المفعول الثاني، والأصل: مخلف رسله وعده، فقدَّم الوعد؛ ليُعلم أنه لا يخلف الوعد أصلاً على الإطلاق، ثم قال: {رسله}؛ ليعلم أنه لم يخلف وعد أحد من الناس، فكيف يخلف وعد رسله وخيرة خلقه؟! فقدَّم الوعد أولاً بقصد الإطلاق، ثم ذكر الرسل لقصد التخصيص. {إن الله عزيز}: غالب لا يماكر، قادر لا يدافع، {ذو انتقام} لأوليائه من أعدائه. يظهر ذلك {يوم تُبدَّل الأرضُ غيرَ الأرضِ}، أ اذكر {يوم تبدل الأرض غير الأرض}، فتبدل أرض الدنيا يوم القيامة بأرض بيضاء عفراء، كقُرْصَة النقِيّ، كما في الصحيح. {و} تبدل {السماوات} بأن تنشق وتُطوى كطي السجل للكتب، ويبقى العرش بارزاً، وهو سماوات الجنة. قال البيضاوي: والتبديل يكون في الذات، كقوله: بدلت الدراهم بالدنانير، وعليه قوله: {بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا} [النساء: 56]، وفي الصفة، كقولك: بدلت الحلقة خاتماً، إذا أذبتها وغيرت شكلها. وعليه قوله {يُبَدِّلُ الله سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} [الفرقان: 70]. والآية تحتملها، فعن علي رضي الله عنه: تبدل أرضاً من فضة وسماوات من ذهب، وعن ابن عباس رضي الله عنهما: هي تلك الأرض، وإنما تغير صفاتها، ويدل عليه ما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «تُبَدَّلُ الأرْضُ غَيْرَ الأرْضِِ فَتبْسَط، وتُمَدّ مد الأديم العكَاظيّ،» لا ترى فيها عِوجاً ولا أمتا « قال ابن عطية: وأكثر المفسرين على أن التبديل يكون بأرض بيضاء عَفراءَ لم يُعْصَ اللهُ فيها، ولا سُفِكَ فيها دم، وليس فيها مَعْلم لأحد. ورُوي ان النبي صلى الله عليه وسلم قال: «المُؤْمِنُ في وَقْتِ التبديلِ في ظل العرْشِ». ورُويَ عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «الناسُ، وقتَ التبديل، على الصِّرَاط» ورُوي أنه قال: «الناس حينئذٍ أضْيَافُ الله؛ فلا يُعجزهم ما». وفي سراج المريدين لابن العربي: أن الله خلق الأرض مختلفة محدودبة؛ ويخلقها يوم القيامة مستوية، لا ترى فيها عوجاً ولا أمتاً، متماثلة بيضاء كخبرة النقى، كما في الصحيح، وأما تبديل السماوات فليس في كيفيتها حديث، وإنما هو مجهول. وفي حديث مسلم: «أين يكون الناس يوم تبدل الأرض؟ قال: هم على الصراط» قال: يحتمل أنه الصراط المعروف، ويحتمل أنه اسم لموضع غيره، تستقر الأقدام عليه، وكأنه الأظهر؛ للحديث الآخر. وقد سألته عائشة وضي الله عنها أين يكون الناس يوم تبدل الأرض؟ قال صلى الله عليه وسلم «هُمْ في الظُّلْمَةِ دُونَ الجسْر». والجسر: الصراط. ه. أما تبديل الأرض: فظاهر الآيات أنها قبل البعث والحشر، فلا يقع البعث والحشر، إلا على الأرض المبدلة؛ كقوله {وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الجبال وَتَرَى الأرض بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ} [الكهف: 47]، وقوله {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الجبال فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً فَيَذَرُهَا قَاعاً صَفْصَفاً} [طه: 105 106].. ثم قال {يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الداعي} [طه: 108]. وقوله {إِذَا وَقَعَتِ الواقعة} [الواقعة: 1]، ثم قال: {إِذَا رُجَّتِ الأرض رَجّاً وَبُسَّتِ الجبال بَسّاً} [الواقعة: 4 5] إلى غير ذلك من الآيات. والأرواح حينئذٍ أضياف الله، أو في ظل العرش، أو دون الجسر، حيث يعلم الله. وأما تبديل السماوات فظاهر الأخبار أنه وقت وقوف الناس في المحشر، حيث تشقق السماء بالغمام وتنزل الملائكة تنزيلاً. والله تعالى أعلم. {وبرزوا للهِ الواحدِ القهار}، أي: وبرزوا من أجداثهم؛ لمحاسبة الواحد القهار، أو لمجازاته. وتوصيفه بالوصفين؛ للدلالة على أنه في غاية الصعوبة، كقوله {لِّمَنِ الملك اليوم لِلَّهِ الواحد القهار} [غافر: 16]، وأن الأمر إذا كان لواحد غلاب لا يغالب فلا مستغاث لأحد إلى غيره، ولا مستجار، {وترى المجرمين يومئذٍ مُقَرَّنين}: قرن بعضهم إلى بعض {في الأصفاد}: في القيود، أو الأغلال، كل واحد قُرن مع صاحبه، على حسب مشاركتهم في العقائد والأعمال، كقوله {وَإِذَا النفوس زُوِّجَتْ} [التكوير: 7]: أو قُرنوا مع الشياطين، أو مع ما اكتسبوا من العقائد الزائفة والأهوية الفاسدة، أو قرنت أيديهم وأرجلهم إلى رقابهم بالأغلال. فقوله: {في الأصفاد}: متعلق بمقرنين، أو حال من ضميره. والصفد: القيد أو الغل. {سرابيلُهُم}: قُمصانُهم، والسربال: القميص، {من قَطرانٍ}، وهو الذي يهنأ به الإبل، أي: تدهن به. وللنار فيه اشتعال شديد، فلذلك جُعِل قَميصَ أهل النار. قال البيضاوي: وهو أسود منتن، تشتعل فيه النار بسرعة، يُطلى به جلود أهل النار، حتى يكون طلاؤه لهم كالقميص، ليجتمع عليهم لذغ القطران ووحشة لونه ونتن ريحه، مع إسراع النار في جلودهم. على أنَّ التفاوت بين القطرانين كالتفاوت بين النارين. ه. {وتغشى وجوهَهُم النار}، أي: تكسوها وتأكلها؛ لأنهم لم يتوجهوا بها إلى الحق، ولم يخضعوا بها إلى الخالق، كما تطلع على أفئدتهم؛ لأنها فارغة من المعرفة والنور، مملوءة بالجهالات والظلمة. ونظيره قوله: {أَفَمَن يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سواء العذاب يَوْمَ القيامة} [الزمر: 24]، وقوله تعالى: {يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النار على وُجُوهِهِمْ} [القمر: 48]. فعل ذلك بهم؛ {لِيَجْزِيَ الله كُلَّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ} من الإجرام، أو ما كسبت مطلقاً؛ لأنه إذا بيَّن أن المجرمين معاقبون لأجرامهم؛ علم أن المطيعين يُثابون لطاعتهم. ويتعين ذلك إذا علق اللام ببرزوا. {إن الله سريع الحساب}، فيحاسب الناس في ساعة واحدة؛ لأنه لا يشغله حسابٌ عن حساب، فكل شخص يظهر له أنه واقف بين يديه، يُحاسب في وقتِ حسابِ الآخر؛ لأن ذلك وقت خرق العوائد. {هذا} القرآن، أو ما فيه من الوعظ والتذكير، أو ما وصفه من قوله {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الله غَافِلاً...} [إبراهيم: 42] إلخ، {بلاغ للناس}؛ أي: كفاية لهم عن غيره في الوعظ وبيان الأحكام، يقال: أعطيته من المال ما فيه بلاغ له، أي: كفاية، أو بلاغ؛ أي: تبليغ لهم، كقوله: {إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ البلاغ} [الشورى: 48] {وَمَا عَلَى الرسول إِلاَّ البلاغ} [النور: 54]. وقوله: {وليُنذروا به}: عطف على محذوف، أي: ليُنصحوا به، ولينذروا به، أو متعلق بمحذوف، أي: ولينذروا به أنزلناه، {وليعلموا أنما هو إله واحد} بالنظر والتأمل فيما فيه من الآيات الدالة على وحدانيته تعالى، أو المنبهة على ما يدل عليه. {وليذَّكَّر} أي: ليتعظ به {أولو الألباب} أي: القلوب الصافية بالتدبر في أسرار معانيه وعجائب علومه وحكمه، فيرتدعوا عما يُرديهم، ويتذرعوا بما يحظيهم. واعلم أنه سبحانه ذكر لهذا البلاغ ثلاث فوائد هي الغاية والحكمة في إنزال الكتاب: تكميل الرسل للناس، واستكمالهم القوة النظرية التي منتهى كمالها التوحيد، وإصلاح القوة العملية التي هي التدرع بكمال التقوى. جعلنا الله من الفائزين بغايتها. قال معناه البيضاوي. الإشارة: قد مكر أهلُ الغفلة بالأولياء، قديماً وحديثاً، واحتالوا على إطفاء نورهم، فأبى الله إلا نصرهم وعزهم؛ {إن الله عزيز ذو انتقام} فينتقم لهم وينصرهم. ووقت نصرهم هو حين يتحقق فناؤهم عن الرسول والأشكال، فتبدل الأرض عندهم غير الأرض والسماوات؛ فتنقلب كلها نوراً مجموعاً ببحر الأنوار، وبمحيطات أفلاك الأسرار، فتذهب ظلمة الأكوان بتجلي نور المكون {الله نُورُ السماوات والأرض} [النور: 35]. وبرزوا من سجن الأكوان لشهود الواحد القهار. وقال الورتجبي: يريد أن أرض الظاهر وسماء الظاهر، تبدل من هذه الأوصاف، وظلمة الخلقية، إلا أنها منورة بنور جلال الحق عليها، وأنها صارت مَشْرق عيان الحق للخلق حين بدا سطوات عزته، بوصف الجبارية والقهارية بقوله {وَأَشْرَقَتِ الأرض بِنُورِ رَبِّهَا} [الزمر: 69] وهناك يا أخي يدخل الوجود تحت أذيال العدم؛ من استيلاء قهر أنوار القدم، قال: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ} [القصص: 88]. وقيل: فأين الأشياء إذ ذاك؟ قال: عادت إلى مصادرها. وقال: متى كانوا شيئاً حتى صاروا لا شيء؟! لأنهم أقل من البهاء في الهواء في جنب الحق. ه. وترى المجرمين، وهم الغافلون، مقرنين في قيود الأوهام، والشكوك، مسجونين في محيطات الأكوان، سرابيلهم ظلمة الغفلة، تغشى وجوههم نارُ القطيعة، لا تظهر عليها بهجة المحبين، ولا أسرار العارفين. فعل ذلك بهم؛ ليظهر فضيلة المجتهدين. هذا بلاغ للناس، وليُنذوا به وبال الغفلة والحجاب، وليتحقق أولو الألباب أن الوجود إنما هو للواحد القهار. وبالله التوفيق، وهو الهادي إلى سواء الطريق.
{الر تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآَنٍ مُبِينٍ (1) رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ (2) ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (3) وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ (4) مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ (5)} قلت: رُب: حرف جر، تدل على التقليل غالباً. وفيها ثماني لغات: التخفيف، والتثقيل مع ضم الراء وفتحها بالتاء، وتدخل عليها (ما) فتكفها عن العمل، ويجوز دخولها حينئذٍ على الفعل، ويكون ماضياً، أو منزلاً منزلته في تحقيق وقوعه، وقد تدخل على الجملة الاسمية؛ كقول الشاعر: رُبَّمَا الجَامِلُ المُؤَبَّلُ فِيهمْ *** وَعَناجِيجُ بَيْنَهُنَّ المِهَارُ وجملة: (إلا ولها): صفة لقرية، والأصل ألا يدخلها الواو، كقوله {إِلاَّ لَهَا مُنذِرُونَ} [الشعراء: 208]، لكن لما شابهت صورة الحال دخلت عليها؛ تأكيداً لوصفها بالموصوف. يقول الحق جل جلاله: أيها الرسول المعظم، {تلك} الآيات التي تتلوها هي {آياتُ الكتاب} الذي أنزلناه إليك، {و} آيات {قرآنٍ} عربي {مبينٍ}؛ واضح البيان، مبيناً للرشد والصواب، فمن تمسك به وآمن بما فيه كان من المسلمين الناجين، ومن كان تنكب عنه وكفر به كان من الكافرين الهالكين، وسيندم حين لا ينفع الندم، كما قال تعالى: {رُّبَمَا يَوَدُّ الذين كَفَرُواْ لَوْ كَانُواْ مُسْلِمِينَ}: متمسكين بما فيه حتى يكونوا من الناجين. وهذا التمني قيل: يكون عند الموت، وقيل: في القيامة، وقيل: إذا خرج العصاة من النار، وهذا أرجح؛ لحديثٍ في ذلك. ومعنى التقليل فيه: أنه تدهشهم أهوال يوم القيامة، فإن حانت منهم إفاقة في بعض الأوقات تمنوا أن لو كانوا مسلمين. قال تعالى: {ذرهم}: دعهم اليوم {يأكلوا ويتمتعوا} بدنياهم {ويُلهِهمُ الأملُ}: ويشغلهم توثقهم بطول الأعمار، واستقامة الأحوال، عن الاستعداد للمعاد، {فسوف يعلمون} سوء صنيعهم إذا عاينوا جزاؤهم. والأمل للتهديد، والغرض: حصول الإياس من إيمانهم، والإيذان بأنهم من أهل الخذلان، وأنَّ نصحهم بعد هذا تعب بلا فائدة. وفيه إلزام الحجة لهم. وفيه التحذير عن إيثار التنعم، وما يؤدي إليه طول الأمل من الهلاك عاجلاً وآجلاً، ولذلك قال تعالى بُعد: {وما أهلكنا من قرية إلا ولها كتابٌ معلوم} أي: أجل مقدر كتب في اللوح المحفوظ، {ما تسبق من أمة أجلها}؛ أي: أجَل هلاكها، {وما يستأخرون} عنه ساعة، وتذكير الضمير في {يستأخرون}؛ للحمل على المعنى، لأن الأمة واقعة على الناس. والله تعالى أعلم. الإشارة: انظر هذا التهديد العظيم، والخطر الجسيم لمن تمتع بدنياه، وعكف على حظوظه وهواه: {ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلههم الأمل فسوف يعلمون}. ولله در القائل: تَفَكَّرتُ فِي الدُّنيا وفي شَهَواتِها *** ولَذاتِها حَتَّى أَطَلْتُ التَّفَكُّرَا وَكيْفَ يَلَذُّ العَيشُ مَنْ هُو سَالِكٌ *** سَبِيلَ المَنَايا رائِحا أوْ مُبكِّرا فَلاَ خَيْرَ في الدُّنْيَا ولاَ في نَعِيِمهَا *** لحُرِّ مقلِّ كانَ أوْ مُكْثِرا
{وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (6) لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (7) مَا نُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذًا مُنْظَرِينَ (8) إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9)} يقول الحق جل جلاله: {وقالوا}؛ أي: كفار قريش: {يا أيها الذين نُزِّل عليه الذكْرُ} في زعمه، أو قالوه تَهكماً، {إنك لمجنون} أي: إنك لتقول قول المجانين، حين تدعي أنه ينزل عليك الذكر، أي: القرآن. {لَوْ مَا}: هلا {تأتينا بالملائكة} ليصدقوك فيما تدعي، أو يعضدوك على الدعوى، أو للعقاب على تكذيبنا {إن كنت من الصادقين} في دعواك، قال تعالى: {ما نُنزّلُ الملائكة}؛ لعذابهم أو لغيره {إلا بالحق} من الوحي، والمصالح التي يريدها الله، لا باقتراح مقترح، أو اختبار كافر، أو: إلا تنزيلاً ملتبساً بالحق، أي: بالوجه الذي قدره في الأزل، واقتضته الحكمة الإلهية، وهو أنه لا تنزل إلا باستئصال العذاب، وقد سبق في العلم القديم أن من ذريتهم من سبقت كلمتنا له بالإيمان، أو يراد بالحق: العذاب، ويؤيده قوله: {وما كانوا إذاً منظَرين}؛ أي: ولو نزلت الملائكة لعوجلوا، وما كانوا، إذا نزلت، مُؤخرين عن العذاب ساعة. ثم رد إنكارهم نزولَ الذكر واستهزاءَهُمْ فقال: {إنا نحن نزلنا الذَّكَر}؛ أي: القرآن، وأكده بأن وضمير الفصل، وحفظه بعد نزوله، كما قال: {وإنا له لحافظون} من التحريف، والزيادة، والنقص، بأن جعلناه معجزاً، مبايناً لكلام البشر، لا يخفى تغيير نظمه على أهل اللسان. قال القشيري: نزل التوراة، وَوَكَلَ حفظها إلى بني إسرائيل، بما استحفظوا من كتاب الله، فحرَّفوا وبَدَّلوا، وأنزل القرآن، وأخبر أنه حافظه، فلا جرم أنه كتاب عزيز، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. ويقال: إنه أخبر أنه حافظ القرآن، وإنما يحفظه بقرائه، فقلوبُ القُرَّاءِ هي خزائنُ كتابه؛ وهو لا يضيع حفظة كتابه، فإن في ذلك تضييع كتابه. ه. وقال ابن عطية على قوله {ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ} [البقرة: 75] ذهبت جماعة من العلماء إلى أنهم بدلوا ألفاظاً من تلقائهم، وأن ذلك ممكن في التوراة؛ لأنهم استحفظوها، وغير ممكن في القرآن؛ لأن الله تعالى ضمن حفظه. ه. الإشارة: كل ما جاء في القرآن من الإنكار على الرسل على أيدي الكفرة وتنقصيهم، والاستهزاء بهم، ففيه تسلية لمن بعدهم من الأولياء. وكذلك ما ذكره الحق تعالى من مقالات أهل الجهل في جانبه؛ كقوله: {لَّقَدْ سَمِعَ الله قَوْلَ الذين قالوا إِنَّ الله فَقِيرٌ} [آل عمران: 181]، وقوله: {وَقَالَتِ اليهود يَدُ الله مَغْلُولَةٌ} [المائدة: 64]، إلى غير ذلك من مقالات أهل الجهل، فكأن الحق تعالى يقول: لو سَلِم أحد من الناس، لسلمتُ أنا وأنبيائي، الذين هم خاصة خلقي، فليكن بي وبرسلي أسوة لمن أُوذي من أوليائي. وبالله التوفيق.
{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ (10) وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (11) كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (12) لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ (13) وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (14) لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ (15)} يقول الحق جل جلاله: في تسلية رسوله عليه الصلاة والسلام {ولقد أرسلنا مِن قبْلِكَ} رسلاً {في شِيَعٍ}: فرق {الأولين} أي: القرون الماضية، جمع شيعة، وهي: الفرقة المتفقة على طريق واحد، وتتشيع لمذهب أو رجل، من شاعه إذا تبعه، أي: نبأنا رجالاً فيهم، وجعلناهم رسلاً إليهم، فكذبوهم واستهزؤوا بهم، فكانوا: {ما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزئون} كما يفعل بك هؤلاء المجرمون. {كذلك نَسْلُكُه} أي: ندخل الاستهزاء {في قلوب المجرمين}. والسلك: إدخال الشيء كالخيط في المخيط، وفيه دليل على أنه تعالى يخلق الباطل دليل على أنه تعالى يخلق الباطل في قلوبهم. وإذا سلك في قلوبهم التكذيب {لا يؤمنون به} أبداً. أو: نسلكه، أي: القرآن؛ مستهزءاً به، أي: مثل ذلك السلك نسلك الذكر في قلوب المجرمين؛ مُكَذَّباً غير مؤمن به، ثم هددهم على عدم الإيمان به، فقال: {وقد خلت سُنَّةُ الأولين} أي: تقدمت طريقتهم على هذه الحالة من الكفر والاستهزاء، حتى هلكوا بسبب ذلك، أو مضت سنته في الأولين بإهلاك من كذب الرسل منهم، فيكون وعيداً لأهل مكة. {ولو فتحنا عليهم} أي: على هؤلاء المقترحين المعاندين من كفار قريش، {باباً من السماء فظلوا فيه يعرجُون}: يصعدون إليها، ويرون عجائبها طول نهارهم، لكذبوا، أو فظلت الملائكة يعرجون فيها وهم يشاهدونهم لقالوا؛ من شدة عنادهم وتشكيكهم في الحق: {إنما سُكِّرتْ}: حيرت {أبصارُنا}، فرأينا الأمر على غير حقيقته؛ من أجل السكر الذي أصابنا بالسحر. ويحتمل أن يكون مشتقاً من السَكر بفتح السين، وهو السد، أي: سُدَّت أبصارنا، ومُنعنا من الرؤية الحقيقية. {بل نحن قوم مسحورون}؛ سحرنا محمد، كما قالوا عند ظهور غيره من الآيات. قال البيضاوي: وفي كلمتي الحصر والإضراب دلالة على جزمهم بأن ما يرونه لا حقيقة له، بل هو باطل خُيّل ما خيل لهم بنوع من السحر. ه. وذلك من فرط عنادهم، وشقاوتهم. والعياذ بالله. الإشارة: هذا كله من قبيل التسلية لأهل الخصوصية، إذا قوبلوا بالإنكار والاستهزاء، فيرجعون إلى الله، والاكتفاء بعلمه، والاشتغال بالله عنه. وقد قال شيخ شيوخنا سيدي علي الجمل رضي الله عنه: عداوة العدو حقاً هي اشتغالك بمحبة الحبيب، وأما إذا اشتغلت بعداوة العدو نال مراده منك، وفاتتك محبة الحبيب. وقال الولي الصالح سيدي أبو القاسم الخصاصي رضي الله عنه لبعض تلامذته: لا تشتغل قط بمن يؤذيك، واشتغل بالله يرده عنك، فإنه هو الذي حركه عليك، ليختبر دعواك في الصدق. وقد غلط في هذا الأمر خلق كثير اشتغلوا بإيذاء من آذاهم، فدام الأذى مع الإثم، ولو أنهم رجعوا إلى الله لردهم عنهم، وكفاهم أمرهم. ه.
{وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ (16) وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ (17) إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ (18) وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ (19) وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ (20) وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (21) وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ (22) وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ (23) وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ (24) وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (25)} يقول الحق جل جلاله: {ولقد جعلنا في السماء بروجاً}؛ اثني عشر برجاً، وهي: الحَمَل، والثور، والجَوْزاء، والسرطان، والأسد والسُّنبلة، والميزان، والعقرب، والقوس، والجَدْي، والدلو، والحوت، والبرج عبارة عن قطعة في الفلك تقطعها الشمس في شهر؛ فتقطع البروج كلها في سنة، ستة يمانية، وستة شمالية، وهي مختلفة الهيئات والخواص، على ما دل عليه الرصد والتجربة. وكل ذلك بقدرة المدبر الحكيم. قال تعالى: {وزيَّناها} بالأشكال والهيئات البهية {للناظرين} المعتبرين؛ ليستدلوا بها على قدرة مبدعها، وتوحيد صانعها. {وحفظها من كل شيطانٍ رجيمٍ}: مرجوم، فلا يقدر أن يصعد إليها ليسترق السمع منها، أو يوسوس أهلها، أو يتصرف في أمرها، أو يطلع على أحوالها. {إلا من استَرَق السمعَ} أي: حفظناها من الشياطين، إلا من استرق منها. والاستراق: الاختلاس، رُوي أنهم يركبون بعضهم بعضاً حتى يصلوا إلى السماء، فيسمعون أخبار السماء من الغيب، فيخطف الجن الكلمة قبل الرمي فيلقيها إلى الكهنة، ويخلط معها مائة كذبة، كما في الصحيح. رُوي عن ابن عباس: أنهم كانوا لا يحجبون عن السماوات، فلما ولد عيسى عليه السلام مُنعوا من ثلاث سماوات، فلما وُلد محمد صلى الله عليه وسلم مُنعوا من كلها بالشهب. وقيل: الاستثناء منقطع، أي: ولكن من استرق السمع، {فأتبعه} لحقه {شهابٌ مبين}؛ ظاهر للمبصرين. والشهاب: شُعلة نار يقتبسها الملك من النجم، ثم يضرب به المسترق، وقيل: النجوم هي التي تضرب بنفسها، فإذا أصابت الشيطان فتلته أو خبلته فيصير غولاً. ثم ذكر معجزة الأرض فقال: {والأرضَ مددناها}: بسلطناها، {وألقينا فيها رواسيَ}؛ جبالاً ثوابت، {وأنبتنا فيها}؛ في الأرض، أو فيها أو في الجبال {من كل شيء موزونٍ}؛ مقدر بمقدار معين تقتضيه حكمته. فالوزن مجاز، أو ما يكون يوزن حقيقة كالعشب النافعة، أو كالذهب والفضة وسائر الأطعمة. {وجعلنا لكم فيها معايش} تعيشون بها من المطاعم والملابس، {و} خلقنا لكم {من لستم له برازقين} من الولدان والخدمة والمماليك، وسائر ما تظنون أنكم ترزقونهم كاذباً؛ فإن الله يرزقكم وإياهم. قال البيضاوي: وفذلكة الآية: الاستدلال بجعل الأرض ممدودة بمقدار معين، مختلفة الأحزاء في الوضع، محدثة فيها أنواع النباتات والحيوانات المختلفة خلقة وطبيعة، مع جواز ألا تكون كذلك؛ على كمال قدرته، وتناهي حكمته، والتفرد في ألوهيته، والامتنان على العباد بما أنعم في ذلك ليوحدوه ويعبدوه. ثم بالغ في ذلك فقال: {وإن من شيء إلا عندنا خزائنه} أي: وما من شيء إلا ونحن قادرون على إيجاده وتكوينه أضعاف ما وجد منه، فضرب الخزائن مثلاً لاقتداره أو شبه مقدوراته بالأشياء المخزونة التي لا يجوج إخراجها إلى كلفة واجتهاد. ه. قال ابن جزي: {وإن من شيء إلا عندنا خزائنُه}؛ قيل: المطر، واللفظ أعم من ذلك، والخزائن: المواضع الخازنة، وظاهر هذا أن الأشياء موجودة قد خلقت. ه. {وما نُنَزَّله} أي: نبرزه من عالم الغيب إلى عالم الشهادة، {إلا بقَدَر معلوم}: بمقدار محدود في وقت معلوم اقتضته الحكمة وتعلقت به المشيئة، لا يزيد ولا ينقص على ما سبق به العلم. {وأرسلنا الرياحَ لواقحَ}: حوامل للماء في أوعية السحاب، يقال: لقحت الناقة والشجرة إذا حملت، فهي لاقحة، وألْقَحَت الريحُ الشجرَ فهي ملقحة. ولواقح: جمع لاقحة، أي: حاملة، أو جمع ملقحة على حذف الميم الزائدة، فهي على هذا ملقحة للسحاب أو الشجر، ونظيره: الطوائح، بمعنى المطيحات في قوله: ومُخْتَبِط مِمَّا تُطِيحُ الطَّوَائِحُ *** والرياح أربعة: صَبَا، ودَبُور، وجَنوب، وشمال. والعرب تسمي الجنوب الحامل واللاقحة، وتسمى الشمال الحائل والعقيم. وفي البخاري: «نُصِرْتُ بالصِّبَا، وأُهْلكَتْ عَادٌ بالدُّبُور». وروي أبو هريرة رضي الله عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «الرِّيحُ الجنوب من الجنة، وهي اللواقح التي ذكر الله، وفيها منافع للناس» وفي الحديث: «الرِّيحُ من نفس الرحمن» والإضافة هنا إضافة خلق إلى خالق، كما قال: {مِن رُّوحِي} [الحجر: 29]. ومعنى نفس الرحمن، أي: من تنفيسه وإزالة الكرب والشدائد، فمن التنفيس بالريح: النصر بالصبا، وذر الأرزاق بها، وجلب الأمطار، وغير ذلك مما يكثر عده. قاله ابن عطية. والمختار في تفسير اللواقح: أنها حاملة للماء، قوله: {فأنزلنا من السماء ماء فأسقيناكموه} أي: جعلنا لم سقيا. يقال: سقى وأسقى بمعنى واحد عند الجمهور. {وما أنتم له بخازنين}: بممسكين له في الجبال، والغدران، والعيون، والآبار، فتخرجونه متى شئتم، بل ذلك من شأن المدبر الحكيم، فإن طبيعة الماء تقتضي الغور، فوقوفه دون حد لا بد له من مسبب مخصص، وجريه بلا انتهاء لا يكون إلا بقدرة السميع العليم، الذي لا تتناهى قدرته. أو: {وما أنتم له بخازنين}؛ بقادرين متمكنين من إخراجه وقت الاحتياج إليه. نفى عنهم ما أثبته لنفسه بقوله: {عندنا خزائنُه}. {وإنا لنحن نُحيي ونُميت} أي: نحيي من نريد إحياءه بإيجاد الحياة فيه، ونميت من نريد إماتته بإزالة الحياة منه. وقد أول الحياة بما يعم الحيوان والنبات. وتكرير الضمير؛ للدلالة على الحصر. {ونحن الوارثون}: الباقون إذا مات الخلائق كلهم. {ولقد علمنا المستقدمين منكم ولقد علمنا المستأخرين} أي: علمنا من تقدم؛ ولادةً، ومن تأخر، أو من خرج من أصلاب الرجال ومن لم يخرج بعدُ، أو من تقدم إلى الإسلام والجهاد وسبق إلى الطاعة، ومن تأخر، لا يخفى علينا شيء من أحوالكم. وهو بيان لكمال علمه بعد الاحتجاج على كمال قدرته، فإنَّ ما يدل على كمال قدرته دليل على كمال علمه. وقيل: رغّب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصف الأول، فازدحموا عليه، فنزلت، وقيل: إن امرأة حسناء كانت تصلي خلف رسول الله صلى الله عليه، فتقدم بعض القوم؛ لئلا ينظر إليها، وتأخر بعض؛ ليبصرها، فنزلت. قاله البيضاوي: {وإن ربك هو يحشرهم} لا محالة للجزاء، كأن هذا هو الغرض من ذكر العلم بالمتقدمين والمتأخرين؛ لأنه إذا أحاط بهم علماً لم تصعب عليه إعادتهم وحشرهم. {إنه حكيمٌ} باهر الحكمة، {عليم}؛ واسع العلم والإحاطة بكل معلوم. قال البيضاوي: وفي توسيط الضمير يعني في قوله: {هو يحشرهم}؛ للدلالة على أنه القادر والمتولي لحشرهم لا غيره، وتصدير الجملة بأن؛ لتحقيق الوعيد والتنبيه على أن ما سبق من الدلالة على كمال قدرته وعلمه بتفاصيل الأشياء يدل على صحة الحكم. ه. الإشارة: ولقد جعلنا في سماء قلوب العارفين بروجاً، وهي المقامات التي ينزلون فيها بشموس عرفانهم، وهي: التوبة، والخوف، والرجاء، والورع، والزهد، والصبر، والشكر، والرضى، والتسليم، والمحبة، والمراقبة، والمشاهدة. وزيناها للناظرين؛ أي: السائرين حتى يقطعوها جملة محمولين بعناية الجذب، حتى يَحلو لهم ما كان مُراً على غيرهم، وحفظنا سماء قلوبهم من طوارق الشيطان، إلا ما كان طيفاً خيالياً لا يثبت، بل يتبعه شهاب الذكر فيحرقه، وأرضَ النفوس مددناها لقيام رسم العبودية، وظهور عالم الحكمة وآثار القدرة، وألقينا فيها جبال العقول الرواسي، لتعرف الرب من المربوب الذي اقتضته الحكمة. وأنبتنا فيها من العلوم الرسيمة والعقلية، ما قدر لها في العلم المكنون، وجعلنا لكم فيها من علم اليقين، وحق اليقين ما تتقوت به قلوبكم، وتعيش به أرواحكم وأسراركم، وتعولون به من لستم له برازقين من المريدين السائرين. سُئل سهل رضي الله عنه عن القوت، فقال: هو الحي الذي لا يموت، فقيل: إنما سألناك عن القوام. فقال: القوام هو العلم، فقيل: سألناك عن الغذاء، فقال: الغذاء هو الذكر، فقيل: سألناك عن طعام الجسد، فقال: ما لَكَ وللجسد، دع من تولاَّه أولاً يتولاه آخراً، إذا دخلت عليه علة رده إلى صانعه، أما رأيت الصنعة إذا عيبت ردوها إلى صانعها حتى يصلحها. وأنشدوا: يَا خادِمَ الجِسْمِ كَمْ تَشْقَى بِخِدْمَتِهِ *** وتَطلُب الربْحَ مما فيه خُسْرَانُ عليك بالنفسِ فاستكمل فَضِِيلَتَهَا *** فأنت بالنفس لا بالجسم إنسانُ واستكمال فضيلة النفس هو تزكيتها وتحليتها حتى تشرق عليها أنوار العرفان، وتخرج من سجن الأكوان. وبالله التوفيق. ثم قال تعالى: {وإن من شيء} من الأرزاق المعنوية والحسية، أو العلوم اللدنية، والفتوحات القدسية {إلا عندنا خزائنه}؛ فمن توجه بكليته إلينا فتحنا له خزائن غيبنا، وأطلعناه على مكنون سرنا شيئاً فشيئاً، {وما نُنزله إلا بقدر معلوم}. وقال الورتجبي: عِلْم الإشارة في الآية: دعوة العباد إلى حقائق التوكل، وهي: قطع الأسباب، والإعراض عن الأغيار، قيل: كان الجنيد رضي الله عنه إذا قرأ هذه الآية: {وإن من شيء إلا عندنا خزائنه}، قال: فأين تذهبون؟. وقال حمدون: قطع أطماع عبيدهِ سواه بقوله: {وإن من شيء إلا عندنا خزائنه}، فمن رفع بعد هذا حاجته إلى غيره، فهو لجهله ولؤمه. ه. وأرسلنا رياح الهداية لواقح، تلقح الطمأنينة والمعرفة في قلوب المتوجهين، وتلقح اليقين والتوفيق في قلوب الصالحين، وتلقح الإيمان والهداية في قلوب المؤمنين، فأنزلنا من ساء الغيب ماء العلم اللدني، فأسقيناكموه على أيدي وسائط الشيوخ، أو بلا واسطة، وما أنتم له بخازنين، بل يفيض على قلوبكم عند غلبة الحال، أو لهداية مريد، أو عند الاحتياج إليه عند استفتاح القلوب، وإنا لنحن نُحيي قلوباً بالمعرفة واليقين ونميت قلوباً بالجهل والكفر، ونحن الوارثون؛ لبقاء انوارنا على الأبد. ولقد علمنا المستقدمين منكم إلى حضرة قدسنا بالاستعداد، وإعطاء الكلية من نفسه، ولقد علمنا المستأخرين عنها بسبب ضعف همته، وإن ربك هو يحشرهم؛ فيُقرب قوماً لسبقهم، ويبعد آخرين لتأخرين. إنه حكيم عليم.
{وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (26) وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ (27)} قلت: قال في الصحاح: الحَمأُ الْمسنُون: المنتنُ المتغير. وسُنَّةُ الوجه: صورته، ثم قال: والمسْنُونُ: المصَوَّرُ، وقد سَنَنتُهُ أَسُنُّه سَنَّا إذا صَوَّرتُه، والمسْنُونُ: المُملَّسُ. وفي القاموس: الحَمأُ المسْنُونُ: المنْتنُ، ورجُل مَسْنُونُ الوجه: مُمَلسُهُ، حَسنُهُ، سَهْلُهُ. أو في وَجْهِهِ وأنْفِهِ طُولٌ. وسنن الطين: عمله فخاراً. ه. وفي ابن عطية: هو من سننت السكين والحجر: إذا أحكمت تلميسه. انطر بقية كلامه. وموضع {من حمأ}: نعت لصلصال، أي: كائن من حمأ. و(الجان): منصوب بمحذوف يفسره ما بعده. يقول الحق جل جلاله: {ولقد خلقنا الإنسان}؛ أي: أصله، وهو آدم، {من صَلصَالٍ} أي: طين يابس يصلصل. أي: يصوت إذا نقر فيه وهو غير مطبوخ، فإذا طُبخ فهو فخار، {من حمأٍ}: من طين أسود {مسنونٍ}: متغير منتن، من سننت الحجر على الحجر إذا حككته به؛ فإنَّ ما يسيل بينهما يكون منتناً، ويسمى سنيناً. أو مسنون: مصور، أو مصبوب ليتصور، كالجواهر المذابة تصب في القوالب، من السن، وهو الصب، كأنه أفرغ الحمأ فصور منها تمثال إنسان أجوف، فيبس حتى إذا نقر صلصل، ثم غير ذلك طوراً بعد طور حتى سواه ونفخ فيه من روحه. {والجانَّ} وهو: إبليس الأول، ومنه تناسلت الجن {خلقناه من قبلُ} أي: من قبل خلق الأنسان، {من نار السَّمُوم}: من نار الحر الشديد النافذ في المسام، ولا يمتنع خلق الحياة في الأجرام البسيطة، كما لم يمتنع خلقها في الجواهر المجردة؛ فضلاً عن الأجساد المؤلفة، التي الغالب فيها الجزء الناري، فإنها أقبل منها لها من التي الغالب فيها الجزء الأرضي. وقوله: {من نار}: لاعتبار الغالب، كقوله: {خَلَقَكُمْ مِّن تُرَابٍ} [فاطر: 11]. ومساق الآية كما هو للدلالة على قدرة الله تعالى، وبيان بدء خلق الثقلين، فهو للتنبيه على المقدمة الثانية التي يتوقف عليها إمكان الحشر، وهو قبول المواد للجمع والإحياء. قاله البيضاوي. الإشارة: اعلم أن الخمرة الأزلية، حين تجلت في مرائي جمالها، تلونت في تجليها، فتجلت نورانية ونارية، ومائية وترابية، وسماوية، وهوائية، إلى غير ذلك من ألوان تجلياتها، فكانت الملائكة من النور، والجن من النار، والآدمي من التراب، إلا أن الادمي فيه روح نورانية سماوية، فاجتمع فيه الضدان: النور الظلمة؛ فشرف قدره في الجملة، فاستحق الخلافة، فإذا غلبت روحانيته على جسمانيته فضل على جميع التجليات، وما مثاله إلا كالمرآةِ التي خلفها الطلاءُ، فينطبع فيه الوجود بأسره، إذا صقلت مرآة قلبه، فتكون معرفته بالحق أجلى وأنصع من معرفة غيره؛ لأن المرآة التي خلفها الطلاء يتجلى فيها ما يقابلها أكثر من غيرها. وأيضاً بشرية الآدمي كالياقوتة السوداء إذا صقلت كانت أعظم اليواقيت. وسيأتي بقية الكلام عند قوله تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} [الإسراء: 70] إن شاء الله.
{وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (28) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (29) فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (30) إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (31) قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (32) قَالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (33) قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (34) وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ (35) قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (36) قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (37) إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (38) قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (40) قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (41)} قلت: (وإذْ قال): ظرف لاذكر، وقوله: {فَقَعُوا}: امرٌ، من وقَع، يقع، قَعْ، فهو مما حُذفت فاؤه. وقوله: (فسجد) معطوف على محذوف، أي: فخلقه، وأمر الملائكة فسجدوا. يقول الحق جل جلاله: {و} اذكر يا محمد {إذْ قال ربك للملائكة}، قبل خلق آدم: {إني خالق بشراً من صَلْصَالٍ من حمأٍ مسنونٍ}، وصفه لهم بذلك ليظهر صدق من يمتثل أمره، قال تعالى: {فإذا سويتُه}: عدلت خلقته وهيأتها لنفخ الروح فيها، {ونفختُ في من روحي}؛ حين جرى آثاره في تجاويف أعضائه فحيي، وأصل النفخ: إجراء الروح في تجويف جسد آخر. ولما كان الروح يتعلق أولاً بالبخار اللطيف المنبعث من القلب، وتفيض عليه القوة الحيوانية فيسري في تجاويف الشرايين إلى أعماق البدن، جعل تعلقه بالبدن نفخاً. قاله البيضاوي. وأضاف الروح إلى نفسه إضافة ملك إلى مالك، اي: من الروح الذي هو لي، وخلق من خلقي. فإذا نفخت فيه {فَقَعوا}: فأسقطوا {له ساجدين فسجد الملائكةُ} حين أكمل خلقته، وأمرهم بالسجود، وقيل: اكتفى بالأمر الأول، {كلُّهم أجمعون}، أكد بتأكيدين للمبالغة في التعميم ومنع التخصيص، {إلا إبليس أبى}: امتنع {أن يكون مع الساجدين}، قال البيضاوي: إن جُعِل الاستثناء منقطعاً اتصل به قوله: {أبَى}؛ أي: لكن إبليس أبَى أن يسجد، وإن جُعِل متصلاً كان قوله: {أبَى}: استئنافاً، على أنه جواب سائل قال: هلا سجد؟ فقال: أبى.. الخ. قلت: والأحسن: أن يقدر السؤال بعد قوله: {إلا إبليس أبى} أي: وما شأنه؟ فقال: أبى أن يكون مع الساجدين. قال تعالى: {يا إبليس ما لكَ}؛ أي شيء عرض لك، {ألا تكونَ مع الساجدين} لآدم؟ {قال لم أكن لأسجُدَ} أي: لا يصح مني، بل ينافي حالي أن أسجد {لبشرٍ} جسماني كثيف، وأنا روحاني لطيف، وقد {خلقتَه من صلصالٍ من حمإ مسنونٍ}، وهو أخس العناصر، وخلقتني من نار وهي أشرفها. استنقص آدم من جهة الأصل، وغفل عن الكمالات التي خصه الله بها، منها: أنه خلقه بيديه بلا واسطة، أي: بيد القدرة والحكمة، بخلاف غيره، ومنها: أنه خصه بالعلوم التي لم توجد عند غيره من الملائكة، ومنها: أنه نفخ فيه من روحه المضافة إلى نفسه، ومنها: أنه جعله خليفة في أرضه... إلى غيره ذلك من الخواص التي تشرف بها فاستحق السجود. قال له تعالى لَمَّا امتنع واستكبر: {فاخرجْ منها} أي: من السماء، أو من الجنة، أو من زمرة الملائكة، {فإنك رجيمٌ}: مطرود من الخير والكرامة؛ فإنَّ من يُطرد يُرجم بالحجر، أو شيطان يُرجم بالشهب، فهو وعيد يتضمن الجواب عن شبهته، أي: ليس الشرف بالأصل، إنما الشرف بالطاعة والقرب. {وإن عليك اللعنةَ}: الطرد والإبعاد {إلى يوم الدين}؛ يوم الجزاء، ثم يتصل باللعن الدائم. وقيل: إنما حد اللعن لأنه أبعد غاية يضربها الناس، أو لأنه يعذب فيه بما ينسى اللعن، فيصير كأنه زال عنه ذلك اللعن. {قال ربِّ فأنْظِرني}: أخرني {إلى يوم يُبعثون}، أراد أن يجد فسحة في الإغواء، ونجاة من الموت، إذ لا موت بعد وقت البعث، فأجابه إلى الأول دون الثاني، {قال فإنك من المنظرين إلى يوم الوقت المعلوم}: المعين فيه أجلك عند الله، وانقراض الناس كلهم، وهو النفخة الأولى عند الجمهور. وهذه المخاطبة، وإن لم تكن بواسطة، لا تدل على منصب إبليس؛ لأن خطاب الله له على سبيل الإهانة والإذلال. قاله البيضاوي. وجزم ابن العربي، في سراج المريدين، بأن كلام الحق تعالى إنما كان بواسطة، قال: لأن الله لا يكلم الكفار الذين هم من جند إبليس، فكيف يكلم من تولى إضلالهم. ه. وتردد المازُريُّ في ذلك وقال: لا قاطع في ذلك، وإنما فيه ظواهر، والظاهر لا تفيد اليقين. ثم قال: وأما قوله: {ما منعك أن تسجد}: فيحتمل أن يكون بواسطة أو بغيرها، تقول العرب: كلمت فلاناً مشافهة، بالكلام، وتارة بالبعث. ه. قلت: الظاهر أنه كلمه بلا واسطة من وراء حجاب، كلامَ عتابٍ وإهانة، كما يوبخ الكفار يوم القيامة، مع أن الواسطة محذوفة عند المحققين، وإن وُجِدَتْ صُورَةً. ثم قال: {ربِّ بما أغويتني} أي: بسبب إغوائك لي، {لأُزَيِّنَنَّ لهم في الأرض}، وقيل: الباء للقسم، أي: بقدرتك على إغوائي، لأزينن لهم المعاصي والكفر في الدنيا، التي هي دار الغرور. قال ابن عطية: قوله: {رَبِّ}: مع كفره، يُخرج على أنه يقر بالربوبية والخلق، وهذا لا يدفع في صدر كفره. وقال، على قوله: {لم أكن لأسجد}: ليس هذا موضع كفره عند الحذاق؛ لأن إبايته إنما هي معصية فقط، أي: وإنما كفره لاعتراضه لأمر الحق واستكباره. وأما قوله وتعليله فإنما يقتضي أن آدم مفضول، وقد أمره أن يسجد لمن هو أفضل منه، فرأى أن ذلك جور، فقاس وأخطأ، وجهل أن الفضائل إنما هي حيث جعلها الله تعالى المالك للجميع. ه. مختصراً. وقال المازري: أما كفر إبليس فمقطوع به؛ لقوله: {واستكبر وَكَانَ مِنَ الكافرين} [البقرة: 34] ثم قال: ويؤكده قوله: {ربِّ بما أغويتني}، وقوله: {لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ...} الآية [ص: 85]، وغير ذلك من ظواهر ما يدل على كفره. وأما: هَلْ حدث هذا الكفر بعد إيمان سابق، أو لم يزل كافراً منذ كان؟ فهذا لا يحصله إلا نص قرآن، أو خبر متواتر، أو إجماع أمة، وهي المحصلة للعلم، وهذه الثلاثة مفقودة هنا. ه. قلت: والظاهر أن كفره لم يظهر إلا بعد الأمر بالسجود لآدم، وإنما سبق به العلم القديم، وكان قد أظهر الإيمان والعبادة والله تعالى أعلم. وقوله: {ولأغوينّهم أجمعين}؛ أي: لأحملنهم على الغواية أجمعين، {إلا عبادكَ منهم المخلَصين}؛ الذين أخلصتهم لطاعتك، وطهرتهم من الشهوات، فلا يعمل فيهم كيدي. ومن قرأ بالكسر فمعناه: الذين أخلصوا دينهم لله، وتحصنوا بالإخلاص في سائر أعمالهم. {قال} تعالى: {هذا صراطٌ عليَّ مستقيمٌ}؛ الإشارة إلى نجاة المخلصين، أو إلى العبادة والإخلاص، أي: هذا الطريق الذي سلكه أهل الإخلاص في عبوديتهم هو طريق وارد عليَّ، وموصل إلى جواري، لا سبيل لك على أهله؛ لأنه مستقيم لا عوج فيه. وقيل: الإشارة إلى انقسام الناس إلى غاوٍ ومخلص، أي: هذا أمر إليَّ مصيره، والنظر فيه لي، عليَّ أن أراعيه وأبينه، مستقيم لا انحراف فيه. وقرأ الضحاك ومجاهد والنخعي، وغيرهم: «عَلِيٌّ؛ بكسر اللام والتنوين، من العلو والشرف، والإشارة حينئذٍ إلى الإخلاص، أي: هذا الإخلاص طريق رفيع مستقيم لا تنال أنت بإغوائك أهلَه يا إبليس. الإشارة: إنما يصعب الخضوع للجنس أو لمن دونه، في حق من يغلب حسه على معناه، وفرقُه على جمعه وأما من غلب معناه على حسه، حتى رأى الأشياء الحسية أواني حاملة للمعاني، أي: لمعاني أسرار الربوبية، بل رآها أنواراً بارزة من بحر الجبروت، لم يصعب عليه الخضوع لشيء من الأشياء؛ لأنه يراها قائمة بالله، ولا وجود لها مع الله، فلا يخضع حينئذٍ إلا لله، فالملائكة- عليهم السلام- نفذت بصيرتهم، فرأوا آدم عليه السلام عليه قبلة للحضرة القدسية، فغلب عليهم شهود المعاني دون الوقوف مع الأواني، فخضعوا لآدم صورةً، ولله حقيقة. وإبليس وقف مع الحس، وحجب بالفرق عن الجمع، فلم ير إلا حس آدم معناه، فامتنع عن السجود، وفي الحِكَم العطائية:» فمن رأى الكون، ولم يشهد الحق فيه، أو عنده، أو قبله، أو بعده، أو معه، فقد أعوزه وجود الأنوار، وحجبت عنه شموس المعارف بحب الآثار «. ولهذا المعنى صعب الخضوع للأشباح؛ لغلبة الفرق على الناس، إلا من سبقت له العناية، فإنه يخضع مع الفرق؛ محبة لله، حتى يفتح الله عليه في مقام الجمع، فيخضع لله وحده. والتوفيق لهذا، والسير على منهاجه أعني الخضوع لمن يوصل إلى الله هو الصراط الذي أشار إليه الحق تعالى بقوله: {هذا صراط عَلَيَّ مستقيم}. والله تعالى أعلم.
{إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ (42) وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ (43) لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ (44) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (45) ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آَمِنِينَ (46) وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ (47) لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ (48)} قلت: (إلا من اتبعك): يحتمل ان يكون منقطعاً، ويريد بالعباد: الخصوص من أهل الإيمان والإخلاص، أي إن عبادي المخلَصين لا تسلط لك عليهم، لكن من اتبعك من الغاوين فهو من حزبك. ويحتمل الاتصال، ويريد بالعباد جيمع الناس، أي: إن عبادي كلهم ليس لك عليهم سلطان، إلا من اتبعك من أهل الغواية. فإنك تتسلط عليه بالوسوسة والتزيين والتحريض فقط، فيتبعك؛ لقوله يوم القيامة {وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فاستجبتم لِي} [إبراهيم: 22]. وعلى الاتصال يكون المستثنى منه أكثر من المستثنى، وإلا تناقض مع قوله: {لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين}. قال أبو المعالي: كون المستثنى أكثر من المستثنى منه ليس معروفاً في كلام العرب. انظر ابن عطية والبيضاوي. و {منهم}: حال من جزء مقدم، أي: لكل باب جزء حاصلٌ منهم مقسوم، أو من المستكن في الظرف لا من مقسوم، لأن الصفة لا تعمل فيما تقدم موصوفها. و{إخواناً}: حال من الضمير المضاف إليه؛ لأنه جزء ما أضيف إليه، والعامل فيه: الاستقرار، أو معنى الإضافة، وكذا: {على سُرُر متقابلين}، ويجوز أن يكون صفتين لإخوان، أو حالين من ضميره. يقول الحق جل جلاله: {إنَّ عبادي} المتحققين بالعبودية لي، المخلصين في أعمالهم، {ليس لك} يا إبليس {عليهم سلطانٌ} أي: غلبة وتسلط بالغواية والإضلال، {إلا من اتبعك من الغاوين} الذين سبقت لهم الغواية، وتنكبتهم العناية. {وإنَّ جهنم لموعدهم}: لموضع إبعاد الغاوين أو المتبعين لك {أجمعين}، {لها سبعة أبواب} يدخلون فيها لكثرتهم، أو طبقات ينزلونها بحسب مراتبهم في المتابعة، وفي كل طبقة باب يسلك منه إليها، فأعلاها: جهنم، وهي للمذنبين من الموحدين، ثم لظى لليهود، ثم الحُطمة للنصارى، ثم السعير للصابئين، ثم سقر للمجوس، ثم الجحيم للمشركين، وكبيرهم أبو جهل، ثم الهاوية، وهي الدرك الأسفل، للمنافقين، وعبَّر في الآية عن النار؛ جملة، بجهنم؛ إذ هي أشهر منازلها وأولها، وهو موضع العصاة الذين لا يخلدون، ولهذا رُوي أن جهنم تخرب وتبلى، يعني: حين يخرج العصاة منها. وقيل: أبواب الطبقات السبع كلها من جهنم، ثم ينزل من كل باب إلى طبقته التي تفضى إليه. قاله ابن عطية. قال البيضاوي: ولعل تخصيص العدد بالسبعة، لانحصار مجامع المهلكات في الركون إلى المحسوسات، ومتابعة القوة الشهوية والغضبية. ه. فالقوة الشهوية محلها ست وهي: السمع والبصر والشم واللسان والبطن والفرج. والقوة الغضبية في البطش باليد والرجل، فالمعاصي المهلكات جلها من هذه السبع، ومَلِكها القلب، إذا صلح صلحت، وإذا فسد فسدت. كما تقدمت للطبقات، قال تعالى: {لكل بابٍ منهم} أي: من الأتباع {جُزْءٌ مَقْسومٌ} أفراد له، لا يدخل إلا منه، ولا يسكن إلا في طبقته. وقد تقدم أهل كل طبقة، من عصاة الموحدين إلى المنافقين. ثم شفع بضدهم، على عادته سبحانه وتعالى في كتابه، فقال: {إنَّ المتقين} للكفر والفواحش، أو لمتابعة إبليس، {في جنات وعيون}، لكل واحد جنة وعين، أو لكل واحد جنات وعيون، يقال لهم عند دخولهم: {ادخلُوها}، وقرأ رويس عن يعقوب: «أدخلُوها»؛ بضم الهمزة وكسر الخاء، على البناء للمفعول، فلا يكسر حينئذٍ التنوين، أي: تقول الملائكة لهم: ادخلوها، أو قد أدخلهم الله إياها. {بسلام} أي: سالمين من المكاره والآلام، أو مسلماً عليكم بالتحية والإكرام، {آمنين} من الآفة والزوال. {وَنَزَعْنا ما في صُدُورهم من غلٍّ} أي: من حقد وعداوة كانت في الدنيا، وعن علي رضي الله عنه: (أرجو أن أكون أنا وعثمان وطلحة والزبير منهم)، أو من التحاسد على درجات ومراتبِ القُرْبِ. قلت: أما التحاسد على مراتب القرب فلا يكون؛ لاستغناء كل أحد بما لديه، وأما التأسف والندم على فوات ذلك بالتفريط في الدنيا فيحصل، ففي الحديث: «ليس يَتَحَسَّرُ أهْلُ الجَنَّةِ على شيء إلاَّ على سَاعَةٍ مَرَّتْ لهم لَمْ يَذْكُرُوا الله فيهَا» ولا يحصل التحسر حتى يرى ما فاته باعتبار وقوفه. قال ابن عطية: ذكر هنا نزع الغل من قلوب أهل الجنة، ولم يذكر له موطناً، وجاء في بعض الحديث أن ذلك على الصراط، وجاء في بعضها: أن ذلك على أبواب الجنة، وفي بعضها: ان الغل يبقى على أبوابها كمعاطن الإبل. ثم قال: وجاء في بعض الأحاديث: أن نزع الغل إنما يكون بعد استقراهم في الجنة. والذي يقال في هذا: أن الله ينزعه في موطن من قوم وفي موطن من آخرين. ه. قلت: والذي جاء في الأحاديث الواردة في أخبار الآخرة: ان أهل الجنة، إذا قربوا منها وجدوا على بابها عينين، فيغتسلون في إحداهما، فتنقلب إجسادهم على صورة آدم عليه السلام، ثم يشربون من الأخرى فتطهر قلوبهم من الغل والحسد، وسائر الأمراض، وهو الشراب الطهور. قاله القشيري في قوله تعالى {وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً} [الإنسان: 21]: يقال: يُطَهَّرُهم من محبة الأغيار، ويقالُ: ويُطَهَّرُهم من الغلِّ والغِشِّ والدَّعوى... الخ ما ياتي إن شاء الله تعالى. والله تعالى أعلم، وسترى وتعلم. ثم قال تعالى: {إخواناً}، أي: لما نزعنا ما في صدورهم من الغل صاروا إخواناً متوددين، لا تباغض بينهم ولا تحاسد، {على سُرُرٍ متقابلين}؛ يقابل بعضهم بعضاً على الأسرة، لا ينظر أحد في فناء صاحبه. وقال شيخ شيوخنا سيدي عبد الرحمن الفاسي: المتجه أن المقابلة معنوية، وهي عدم إضمار الغل والإعراض، سواء اتفق ذلك حسّاً أم لا، ومن أضمر لأخيه غلاً فليس بمقابله، ولو كان وجهه إلى وجهه، بل ذلك أخلاقُ نفاقٍ، ولذلك شواهد بذمه لا بمدحه. ه. {لا يَمسُّهم فيها نَصَبٌ} أي: تعب، {وما هم منها بمخْرَجين}، لأن تمام النعمة لا يكون إلا بالخلود والدوام فيها. أكرمنا الله بتمام نعمته، ودوام النظر إلى وجهه آمين. الإشارة: لا ينقطع عن العبد تسلط الشيطان حتى يدخل مقام الشهود والعيان، حين يكون عبداً خالصاً لله، حراً مما سواه، وذلك حين ينخرط في سلك القوم، ويزول عنه لوث الحدوث والعدم، فيفنى من لم يكن، ويبقى من لم يزل، وذلك بتحقيق مقام الفناء، ثم الرجوع إلى مقام البقاء. قال الشيخ أبو المواهب رضي الله عنه: من رجع إلى البقاء أمن من الشقاء؛ وذلك أن العبد حين يتصل بنور الله، ويصير نوراً من أنواره، يحترق به الباطل ويدمغ، فلا سبيل للأغيار عليه. ولذلك قال بعضهم: نحن قوم لا نعرف الشيطان، فقال له القائل: فكيف، وهو مذكور في كتاب الله تعالى، قال تعالى {إِنَّ الشيطان لَكُمْ عَدُوٌّ فاتخذوه عَدُوّاً} [فاطر: 6] ؟. فقال: نحن قوم اشتغلنا بمحبة الحبيب، فكفانا عداوة العدو. وحين يتحقق العبد بهذا المقام ينخرط في سلك قوله تعالى: {إن المتقين في جنات وعيون ادخلوها بسلام آمنين ونزعنا ما في صدورهم من غل..} الآية، وهذا لا ينال إلا بالخضوع لأهل النور، حتى يوصلوه إلى نور النور، فيصير قطعة من نور غريقاً في بحر النور.
{نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ (50)} يقول الحق جل جلاله: {نبِّىءُ}: أخبر، {عبادي أني أنا الغفور الرحيم} لمن آمن بي، وصدق رسلي، {وأنَّ عذابي هو العذابُ الأليم} لمن كفر بي، وجحد رسلي، أو بعضهم. قال البيضاوي: هي فذلكة ما سبق من الوعد والوعيد، وتقرير له، وفي ذكر المغفرة دليل على أنه لم يرد بالمتقين متقى الذنوب بأسرها، كبيرها وصغيرها، وفي توصيف ذاته بالغفران والرحمة دون التعذيب أي: لم يقل وأنا المعذب المؤلم ترجيح الوعد. ه. وذكر ابن عطية ان سبب نزولها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء إلى جماعة من أصحابه، عند باب بني شَيْبَةَ في الحرم، فوجدهم يضحكون، فزجرهم ووعظهم، ثم ولى، فجاءه جبريل عن الله، فقال: يا محمد أتُقَنِّط عبادي؟ وتلى عليه الآية، فرجع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم وأعلمهم. ه. ثم قال: ولو لم يكن هذا السبب لكان ما قبلها يقتضيها؛ إذ تقدم ذكر ما في النار وذكر ما في الجنة، فأكّد تعالى تنبيه الناس بهذه الآية. ه. قيل: وهذه الآية أبلغ ما في القرآن في إثارة الخوف والرجاء من الآي التي لا تشبهها في الإجمال؛ لما فيها من التصريح، ثم الرجاء فيها أغلب؛ لأجل التقديم، مع ذكره في آية الرجاء، لصفاته العلية وأسمائه الحسنى، وذلك يؤذن بالتهمم به وترجيحه، وهو مذهب الصوفية في حال الحياة والممات. الإشارة: الخوف والرجاء يتعاقبان على الإنسان، فتاره يغلب عليه الخوف، وتارة يغلب عليه الرجاء. هذا قبل الوصول، وأما بعد الوصول فالغالب عليهم الاعتدال، قال في التنبيه: أما العارفون الموحدون فإنهم على بساط القرب والمشاهدة، ناظرون إلى ربهم، فانون عن أنفسهم، فإذا وقعوا في ذلة، أو أصابتهم غفلة، شهدوا تصريف الحق تعالى لهم، وجريان قضائه عليهم. كما أنهم إذا صدرت منهم طاعة، أو لاح منهم لائح من يقظة، لم يشهدوا في ذلك أنفسهم، ولم يروا فيها حولهم ولا قوتهم؛ لأن السابق إلى قلوبهم ذكر ربهم، فأنفسهم مطمئنة تحت جريان أقداره. وقلوبهم ساكنة بما لاح لهم من أنواره، ولا فرق عندهم بين الحالين؛ لأنهم غرقى في بحار التوحيد، قد استوى خوفهم ورجاؤهم، فلا ينقص من خوفهم ما يجتنبونه من العصيان، ولا يزيد في رجائهم ما يأتون من الإحسان. ه. قلت: بل طرق الرجاء عندهم أرجح كما تقدم؛ لأن الرجاء ناشئ عن غلبة المحبة، وهي غالبة. والله تعالى أعلم.
{وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ (51) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ (52) قَالُوا لَا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ (53) قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ (54) قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ (55) قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ (56) قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (57) قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (58) إِلَّا آَلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ (59) إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ (60)} قلت: (سلاماً): مفعول بمحذوف، أي: سلمنا سلاماً، أو نسلم عليكم سلاماً. والضيف يطلق على الواحد والجماعة، والمراد هنا: جماعة من الملائكة، و(تُبشرون): قرئ بشد النون؛ بإدغام نون الرفع في نون الوقاية، وبالتخفيف؛ بحذف إحدى النونين، وبالفتح على أنها نون الرفع. و(يقنط): بالفتح والكسر، يقال: قنط كضرِب وعلم. يقول الحق جل جلاله: {ونَبَّئهم} أي: وأخبر عبادي {عن ضيف إبراهيمَ} حين بشروه بالولد، وأعلموه بعذاب قوم لوط، لعلهم يعتبرون فيرجون رحمته ويخافون عذابه. أو: ونبئهم أن من اعتمد منهم على كفره وغوايته، فالعذاب لاحق به في الدنيا، كحال قوم لوط. ثم ذكر قصتهم من أولها فقال: {ونبئهم عن ضيف إبراهيم}، وذلك حين {دخلوا عليه}، وهم أربعة: جبريل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل، {فقالوا سلاماً} أي: نُسلم عليكم سلاماً، قال: سلام، ثم أتاهم بعجل حنيذ، فلما قربه إليهم، قالوا: إنا لا نأكل طعاماً إلا بثمن، فقال إبراهيم: إن له ثمناً، قالوا: وما ثمنه؟ قال: تذكرون اسم الله على أوله، وتحمدونه على آخره، فنظر جبريل إلى ميكائيل فقال: حق لهذا ان يتخذه ربه خليلاً، فلما رأى أنهم لا يأكلون فزع منهم. ومن طريق آخر: أن جبريل مسح بجناحه العجْل، فقام يدرج حتى لحق بأمه في الدار. ه. هكذ ذكر القصة المحشي الفاسي عن ابن حجر. فلما أحس إبراهيم عليه السلام بالخوف منهم {قال إنكم منكم وَجِلُون}: خائفون؛ إما لامتناعهم من أكل طعامه، أو لأنهم دخلوا بغير إذن، أو في غير وقت الدخول. والوجل: اضطراب النفس لتوقع مكروه. {قالوا لا تَوْجَلْ}: لا تخف، ثم عللوا نهيه عن الخوف فقالوا: {إنا نبشِّرك بغلام} وهو إسحاق، لقوله {فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ} [هود: 71]، {عليمٍ} إذا بلغ أوان العلم. {قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي على أَن مَّسَّنِيَ الكبر} أي: أبشرتموني بالولد مع أني قد كبر سني، وكان حينئذٍ من مائة سنة وأكثر، {فبِمَ تُبَشِّرونِ} ؟ أي: فبأي أعجوبة تبشرون؟ أو فبأي شيء تبشرون؟ فإن البشارة بما لا يتصور وقوعه عادة بشارة بغير شيء. قال ذلك على وجه التعجب من ولادته في كِبَرهِ. {قالوا بشرناك بالحق}: باليقين الثابت الذي لا محالة في وقوعه، فلا تستبعده، ولا تشك فيه، {فلا تكن من القانطين}: من الآيسين، فإن الله تعالى قادر على أن يخلق بشراً من غير أبوين، فكيف من شيخ فانٍ وعجوز عاقرٍ. وكان استعجاب إبراهيم باعتبار العادة، دون القدرة؛ ولذلك {قال ومن يَقْنَطُ من رحمة ربه} أي: لا ييأس من رحمة ربه {إلا الضالون}: أي: المخطئون طريق المعرفة، فلا يعرفون سعة رحمته تعالى، وكمال قدرته، قال القشيري: أي: من الذي يقنط من رحمة الله إلا من كان ضالاً، فكيف أخطأ ظنكم بي، فتوهمتم أني أقنط من رحمة ربي؟. ه. وفيه دليل على تحريم القنوط؛ قال تعالى: {إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ الله إِلاَّ القوم الكافرون} [يوسف: 87]. {قال فما خَطْبُكم أيها المرسلون} أي: ما شانكم الذي أرسلتم لأجله سوى البشارة؟ ولعله علم ان كمال المقصود ليس هو البشارة فقط، لأنهم كانوا عدداً، والبشارة لا تحتاج إلى عدد، ولذلك اكتفى بالواحد في بشارة زكريا ومريم. أو لأنهم بشروه في تضاعيف الحال؛ لأزالة الوجل، ولو كانت تمام المقصود لابتدروه بها. ثم أجابوه: {قالوا إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين}؛ يعني: قوم لوط؛ لأن شأنهم الإجرام بفعل الفاحشة، {إلا آل لوطٍ} أي: لكن آل لوط لم نُرْسَل إلى عذابهم؛ إذ ليسوا مجرمين: أو أرسلنا إلى قوم أجرموا كلهم، إلا آل لوط، لنهلك المجرمين وننجي آل لوط، ويدل عليه قوله: {إنا لمنجُّوهم أجمعين} من العذاب الذي يهلك به قوم لوط. قال ابن جزي: قوله: {إلا آل لوط}: يحتمل أن يكون استثناء من قومه، فيكون منقطعاً؛ لوصف القوم بالإجرام، ولم يكن آل لوط مجرمين. ويحتمل أن يكون استثناء من الضمير في {مجرمين}؛ فيكون متصلاً، كأنه قال: إلى قوم أجرموا كلهم آل لوط فلم يجرموا، قوله: {إلا امرأته}؛ استثناء من آل لوط، فهو استثناء من استثناء. قيل: وفيه دليل على أن الأزواج من الآل؛ لأنه استثنى امرأته من آله. وقال الزمخشري: إنما هو استثناء من الضمير المجرور في قوله: {إنا لمنجوهم}، وذلك هو الذي يقتضيه المعنى. ه. أي: إنا لمنجوهم من العذاب {إلا امرأته قدَّرنا إنها لمن الغابرين}؛ الباقين في العذاب مع الكفرة؛ لتهلك معهم، وقرأ أبو بكر عن عاصم: «قدرنا» بالتخفيف، وهما لغتان، يقال: قدّر الله وكذا وقدره، قال البيضاوي: وإنما علق، والتعليق من خواص أفعال القلوب؛ لتضمنه معنى العلم، ويجوز أن يكون (قدرنا): أجرى مجرى قلنا؛ لأن التقدير بمعنى القضاء قول، وأصله: جعل الشيء على مقدار غيره، وإسناد التقدير إلى إنفسهم، وهو فعل الله تعالى؛ لما لهم من القرب والاختصاص. ه. قلت: وفيه إشارة إلى حذف الوسائط، كما هو توحيد المحققين. والله تعالى أعلم. الإشارة: لا يلزم من ثبوت الخصوصية عدم وصف البشرية، فالوجل والخوف والفرح والحزن والتعجب والاستعظام للأشياء الغريبة، كل ذلك من وصف البشر، يقع من الخصوص وغيرهم، لكن فرق بين خاطر وساكن، فالخصوص تهجم عليهم ولا تثبت، بخلاف العموم. ويؤخذ من الآية: أن صحبة الخصوص لا تنفع إلا مع الاعتقاد والتعظيم، فإنَّ امرأة نبي الله لوط كانت متصلة به حساً، ومصاحبة له، ولم ينفعها ذلك، حيث لم يكن لها فيه اعتقاد ولا تعظيم. وكذلك صحبة الأولياء: لا تنفع إلا مع صدق والتعظيم. وقول ابن عطاء الله: سبحان من لم يجعل الدليل على أوليائه إلا من حيث الدليل عليه. ولم يوصل إليهم إلا من اراد أن يوصله إليه «: مقيد بوصول التعظيم والاعتقاد، والاستماع والاتباع. والله تعالى أعلم.
|